أمل.. قلب لا يشيخ رغم الوحدة

في زاوية هادئة من إحدى الشقق القديمة بحي فيصل حيث تتجاور النوافذ وتتشابك الحكايات تعيش أمل السيدة التي بلغت من العمر ثالثة وسبعين عاما بين جدران تحمل ذكريات عمرها الطويل أثاثها قديم لكنه مرتب بعناية تتوسط صالة بيتها العتيقة التي ال تزال تحتفظ برائحة الاليام الماضية وعلى الطاولة الخشبية الصغيرة بجانبها صورة باهتة لشابة في مقتبل العمر ترتدي فستان زفافها الابيض كانت في يومها السعيد اليوم الذي ظنت فيه أنها تبدأ حياة مليئة بالحب واالستقرار.
لم تُرزق أمل بأبناء لكنها لم تكن وحيدة تماما لطالما عوضها أبناء إخوتها عن مشاعر األمومة التي لم تعشها كانوا يأتون إليها بأطفالهم فتمأل ضحكاتهم البيت للحظات قبل أن يعود الصمت مجدًدا إلى المكان مع مغادرتهم في تلك اللحظات كانت تشعر أنها أماً حتى لو لم تحمل يوما اطفًال بين يديها.

تزوجت أمل في العشرين من عمرها لم يكن زواجا تقليديًا فقد أحبته بصدق وكان بالنسبة لها الرجل الذي ستحيا معه عمرها كله لكن القدر لم يكن رحيما إذ مرت السنوات دون أن تُرزق بطفل لم يكن الطالق خيارها الالول بل كان قَدرا فُرض عليها في مجتمع لا يرحم المرأة التي ال تنجب لكنها رغم كل شيء لم تفقد الالمل في أن يعود إليها كانت تردد دائما أنه سيعود وأن الاليام ستجمعهما مرة أخرى كانت تؤمن أن الحب قادر على صنع المعجزات لكنه لم يكن قادًرا على إعادته هذه المرة فقد رحل عن الدنيا تاركًا إياها تواجه الحياة وحدها.

عند بلوغها الخامسة والاربعين دخلت مرحلة جديدة من حياتها مرحلة الوحدة بمعناها الحقيقي لم تفكر في الزواج مجدًدا ولم تحاول تعويض ما فاتها اكتفت بأحضان ذكرياتها وبالحب الذي أغدقه عليها أبناء إخوتها أولئك الذين كانت تعتبرهم أبناءها الذين لم تلدهم كانوا يترددون عليها باستمرار لكنهم لم يكونوا معها طوال الوقت فكل منهم لديه حياته وأسرته بينما بقيت هي أسيرة للوحدة التي أصبحت جز ًءا من يومها.

سنواتها الطويلة قضتها في ظل معاش أخيها الذي كان يعمل في إحدى الهيئات التابعة لوزارة الداخلية لم تكن ثرية لكن الدولة وفرت لها ما يعينها على الحياة لم تكن تطلب الكثير فقط سقف يحميها من قسوة الشتاء وطعام بسيط يكفيها لكن ما لم تستطع الحصول عليه هو دفء الروح كانت تحاول ملء وقتها بما تستطيع من أعمال بسيطة تحيك مالبس ألحفاد إخوتها تصنع الحلوى في الاعياد وتزين بيتها كلما شعرت بالكآبة لكنها لم تجد في أي منها ما يُشغل قلبها عن إحساسها المستمر من الخوف الوحدة حتى وهي بين أحبائها.

اليوم تجلس أمل على كرسيها الخشبي بجوار النافذة التي تطل على الشارع تراقب المارة كأنها تبحث عن وجه مألوف تتابع الاطفال وهم يركضون خلف بعضهم البعض تتذكر طفولتها عندما كانت تلعب بنفس الطريقة عندما كانت الحياة تبدو أبسط وأكثر دفئًا لكنها ال تحزن بل تبتسم في هدوء وكأنها تتقبل ما مضى لم تكن حياتها كما أرادت لكنها أيضا لم تخل من لحظات الدفء لم تُرزق بأبناء لكنها كانت أماً بروحها بحبها برعايتها لكل من حولها ورغم الوحدة لم تفقد القدرة على الحب ذلك الشعور الذي ظل رفيقها الوحيد في رحلتها الطويلة وحتى بعدما شاخت مالمحها ظلت تحتفظ بقلب ينبض بالعطاء تنتظر زائرا يطرق بابها أو مكالمة تطمئنها أن هناك من ال يزال يتذكرها.

Scroll to Top